خطبة الجن حقيقتهم وأحكامهم.للشيخ محمد العريفي

الحمد لله ذي الفضل والجود والمِنة ، المتوحّد بخلق الإنس والجِنة ، الذي أمر بطاعته ووعد من أطاعه الكرامة في الجنة ، وتوعد من عصاه بالنار إذ تولى عن الدين وخالف السنة . وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين: أما بعد ، أيها المؤمنون: فإن عالم الجن أحد روافد العقيدة الإسلامية، التي يترتب على إنكار أحد مقوماتها الكفرُ بالله تعالى، فقد أخبرنا الله تعالى عن الجن وقرن بينهم وبين الإنس في مواضع كثيرة. والغاية من خلق الجن هي ذاتُها الغايةُ من خلق الإنس وهي عبادة الله تعالى (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون* ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون) . ويعيش كثير من الناس أوهاماً لا حقيقة لها عن الجن وقدراتهم وطبائعهم بين غالٍ مفرط فيهم وجافٍ منكر لهم . ولا شك أن الجن - أيها الأخوة المؤمنون - عالم من العوالم التي أخفى الله تعالى عنا كثيراً من جوانب خلقهم وخصائصهم لعدم حاجتنا إلى معرفة ذلك وإلا فلو كان ذلك يفيدنا في ديننا أو دنيانا لبينه الله تعالى لنا. أيها الأخوة الكرام: أما الجن: فسُموا جِناً لاختفائهم عن الأنظار، والاجتنان: هو الاختفاء والاستتار. ويتساءل بعض الناس أيهما خُلق قبل الآخر الجن أم الإنس؟ والجواب عن ذلك بينه الله تعالى بقوله :(ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأٍ مسنون * والجانّ خلقناه من قبل من نار السموم) قال ابن عباس رضي الله عنه: خلق الجن قبل خلق آدم عليه السلام. ونقل ابن كثير في تفسيره: عن ابن عباس قال: إن أول من سكن الأرض الجن، فأفسدوا فيها وسفكوا فيها الدماء وقتل بعضهم بعضاً، فبعث الله إليهم إبليس ومن معه فقتلهم، حتى ألحقهم بالجزر والجبال، فلذلك لما قال للملائكة :(إني جاعل في الأرض خليفة) قالوا:(أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) لأن الجن أفسدوا في الأرض قبل بني آدم، فقاسوا هؤلاء بأولئك. أيها الأخوة الكرام: وإذا تقرر أن الإنسان مخلوق من طين، فإن خلقة الجن هي كما قال الله تعالى:(من نار السموم) وفي آية أخرى قال سبحانه:(وخلق الجان من مارج من نار) ومعناهما واحد فنار السموم والمارج من نار كلاهما: النار الشديدة الحرارة التي لا دخان لها . والجن - أيها الناس - لهم صفات متعددة لا تختلف كثيراً عن بني آدم: فمن ذلك: أنهم يتناكحون ولهم ذرية كما قال سبحانه عن إبليس:(أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو) . والدليل على تناكحهم ووَطئهم قوله تعالى عن نساء الجنة: (لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جانّ ) والجن يتوالدون ويتناسلون أكثر من الإنس فهم أكثر عدداً قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنه:إن الله جزّأ الإنس والجن عشرة أجزاء فتسعةٌ منهم الجن، والإنس جزءٌ واحد، فلا يولد من الإنس ولد إلا ولد من الجن تسعة.(كنز العمال) والجن يأكلون ويشربون : ويدل على ذلك ما في صحيح مسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن الاستجمار بالعظم والروث وقال: ( إنه زاد إخوانكم من الجن ). وفيه أيضاً عن حذيفة رضي الله عنه قال: كنا إذا حضرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم طعاماً لم نضع أيدينا حتى يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيضعَ يده، وإنا حضرنا معه مرة طعاماً فجاءت جاريةٌ كأنها تُدفع فذهبت لتضع يدها في الطعام فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها، ثم جاء أعرابيٌ كأنما يُدفع فأخذ بيده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إن الشيطان يستحل الطعام أن لا يذكر اسم الله عليه، وإنه جاء بهذه الجارية ليستحل بها فأخذت بيدها ، فجاء بهذا الأعرابي ليستحل به فأخذت بيده ، والذي نفسي بيده إن يده في يدي مع أيديهما). ومن صفات الجن : أنهم مكلفون ولهم إرادة واختيار:ويدلّ عليه قوله تعالى:(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدونِ). وقد اختلف أهل العلم : هل أُرسِل إلى الجن رسلٌ منهم كما هو الحال عند الإنس أم أنهم مأمورون باتباع رسول الإنس؟ والجواب : أن الله تعالى يرسل الرسول من الإنس فينذر قومه الإنسَ، ويأمر من آمن به من الجن بإنذار أقوامهم كما قال تعالى:(وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قُضيَ ولّوا إلى قومهم منذرين ) ولم يقل: مرسَلين . ويمكن أن يُستأنس في الاستدلال على ذلك: ما رواه الإمام أحمد وغيره- بسند فيه ضعف - عن عبدالله بن مسعودرضي الله عنه قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، إذ قال : ليقم معي رجل منكم، ولا يقومن معي رجل في قلبه من الغش مثقالُ ذرة ، قال : فقمت معه فأخذت الإداوة فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بأعلى مكة رأيت أسوِدة مجتمعة، قال: فخط لي رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً،ثم قال: قم ههنا حتى آتيك، فقمتُ، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فرأيتهم يثورون إليه. قال: فسمر معهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ليلاً طويلاً حتى جاءني فقال لي: ما زلتَ قائماً يا ابن مسعود ! قلت له : يا رسول الله ! أو لم تقل لي قم حتى آتيك؟ فقال لي: هل معك من وضوء؟ فقلت: نعم؟ ثم توضأ منها، فلما قام يصلي أدركه شخصان منهم فقالا: يا رسول الله ! إنا نحب أن تؤمنا في صلاتنا، قال: فصفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه ثم صلى بنا. فلما انصرف قلت: يا رسول الله ! من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء جنّ نصيبين [ وهو موقع في اليمن ] جاءوني يختصمون في أمور كانت بينهم. [ قال الهيثمي في مجمع الزوائد 8/ 3: رواه أبو داود وأحمد وفيه أبو زيد مولى عمرو بن حريث وهو مجهول ]. ومن صفاتهم:أنهم يموتون ويبعثون قال تعالى:( كل شيءهالك إلا وجهه)وقال( كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام). وعن ابن عباس رضي الله عنه:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول :(اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني أنت الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون )متفق عليه. إلا أنه ذكر بعض أهل العلم أن الجن يكونون أطولَ أعماراً من الإنس، وقد روى البيهقي - وحسّنه - قال: بينما عمر بن عبد العزيز يمشي إلى مكة إذ رأى حية ميتة فدفنها، فإذا هاتف يهتف: رحمة الله عليك يا سُرَق! فقال عمر: من أنت؟ قال: أنا رجل من الجن وهذا سُرق،لم يبق ممن بايع رسولَ الله غيري وغيرَه، وأشهد لسمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول:(تموت يا سرق بفلاة من الأرض و يدفنك خير أمتي). فحلّفه عمر على ذلك فحلف له فبكى عمر.[البداية والنهاية650] ومن صفات الجن: أنهم يسكنون مع الإنس فوق الأرض: ويدل عليه قوله تعالى عن آدم وحواء وإبليس:(...وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقرٌ ومتاع إلى حين)وقوله:(والأرض وضعها للأنام) قال ابن عباس:الأنام: الخلق، فيشمل الجن والإنس. [ ابن كثير4270]. وأكثر ما يسكن الجن في مواضع النجاسات لذا شُرع لنا الاستعاذةُ بالله من ذكور الجن وإناثهم قبل دخول الخلاء، كما روى أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن هذه الحشوش محتضرةٌ؛ فإذا أتى أحدكم الخلاء فليقل: أعوذ بالله من الخُبُـث والخبائث ). ونهى صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في أعطان الإبل والحمامات لأنها مأوى الشياطين. ويكثر وجود الجن والشياطين في الأسواق لفتنة الرجالِ بالنساء،والنساءِ بالرجال، لذا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دخول الأسواق لغير حاجة، وأوصى بالذِّكر في الأسواق. وقال فيما رواه مسلم: (لا تكونن - إن استطعت - أولَ من يدخل السوق ، ولا آخرَ من يخرج منها؛ فإنها معركة الشيطان وبها ينصب رايته). ومن صفات الجن : أنهم يقدرون على التشكل في صور متنوعة. ومن ذلك تمثلُ إبليس يوم بدر بصورة سراقة بن مالك، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: جاء إبليس يوم بدر في جند من الشياطين معه رايتُه، في صورة سراقةَ بنِ مالك فقال الشيطان للمشركين: لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم (يعني أُجيركم وأحميكم بقومي) فأقبل جبريل عليه السلام إلى إبليس، فلما رآه وكانت يده في يد رجل من المشركين, انتزع يده ثم ولى مدبراً وشيعته، فقال الرجل: يا سراقة تزعم أنك لنا جارٌ ؟! فقال: إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب، وذلك حين رأى الملائكة.[ابن كثير2419]. وقال r فيما رواه مسلم: ( الكلب الأسود شيطان ) أيْ: تتمثل بصورته الجن والشياطين. أسأل الله تعالى أن يفقهني وإياكم في الدين ، وأن يعلمنا ما ينفعنا،وينفعَنا بما علمنا، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. الخطبة الثانية : الحمد لله أكمل لنا الدين ، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام دينا، أحمده سبحانه وأشكره ، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله .. جعلنا على المحجة البيضاء. ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك . أما بعد، أيها الأخوة الكرام: ولا يمكن لأحد أن يرى الجن على صورتهم الأصلية التي خلقهم الله تعالى عليها؛ لقوله تعالى: عن الشيطان (إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم )[فتح الباري 489] وكل ما يُذكر أو يُنشر من صور للجن أو أوصافٍ لخلقتهم الأصلية فهو باطل، لا يعتمد على أصل صحيح. أيها المؤمنون : وقد قسم بعض أهل العلم الجنّ إلى أصناف ثلاثة من حيث طبائعهم وقدراتهم: الأول: هم الجن العفاريت: وهم أقوياءُ الجن ودهاتُهم، ومنهم العفريت الذي تكفل لسليمان عليه السلام بإحضار عرش بلقيس من اليمن إلى فلسطين في سويعات قليلة قال تعالى:( قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقويٌ أمين ). والصنف الثاني هم: الخُبّل، وهم سفهاء الجن الذين يؤذون بني آدم بالتلبس والصرع وغيره .. والصنف الثالث: هم الغيلان: جمع غُول قيل إنهم سحرة الجن، الذين يتشكلون يظهرون للناس، وهؤلاء يفزعون من ذِكر الله تعالى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(إذا تغوّلت لكم الغيلان، فنادوا بالأذان) رواه الإمام أحمد. أيها الأخوة الكرام : ومع كل هذه القدرات إلا أن الجن ضعفاء، قال تعالى:( إن كيد الشيطان كان ضعيفاً)وقال سبحانه عن الشيطان:(إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون). وعن ابن مسعودرضي الله عنه قال:لقي رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من الجن فصارعه فصرعه الإنسي، فقال الجني:عاودني، فعاوده فصرعه الإنسي، فقال له الإنسي: إني لأراك ضئيلاً شحيباً كأن ذُرَيعتيك ذُرَيعتا كلب، فكذلك أنتم معاشر الجن أو أنت منهم كذلك؟! قال: لا والله إني منهم لضليعٌ، ولكن عاودني الثالثة فإن صرعتني علّمتك شيئاً ينفعك، فعاوده فصرعه، فقال: هات علمني! فقال: هل تقرأ آية الكرسي؟ قال: نعم، قال: إنك لن تقرأَها في بيت إلا خرج منه الشيطان له خبج [أي ضراط ] كخبج الحمار لا يدخله حتى يصبح، قال رجل من القوم يا أبا عبد الرحمن من ذاك الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فعبس عبد الله وأقبل عليه وقال: من يكون هو إلا عمر رضي الله عنه.[مجمع الزوائد 9/71وقال الهيثمي :رواه الطبراني ورجال رجال الصحيح]. أيها المؤمنون: والجن يعيشون في قبائل وعشائر كالإنس ، وفيهم المهتدون الذين قالوا: (يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجِرْكم من عذاب أليم). وفيهم: الفساق العصاة، وفيهم الكفار، وقد اعترفوا هم بذلك فقالوا:( وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قِدَداً ) أي : فِرقاً وطوائف شتى.[القرطبي 115]. ومن العجب - أيها المسلمون - أن الجن لم يسلموا من الوقوع في المذاهب الضالة التي وقع فيها بعض الإنس. أسأل الله تعالى أن يفقهني وإياكم في الدين، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وينفعَنا بما علمنا. نسأل الله أن يوفقنا جميعاً إلى كل خير. اللهم أصلح أنفسنا ونساءنا وأولادنا وبناتنا. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن جميع صحابته ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان ..

» خطبة مهمة في إصلاح ذات البين(للشيخ/محمد العريفي)
» خطبة للشيخ محمد العريفي بعنوان (إسمعوا يارافضة) أيها الأعداء لرسول الله صلى عليه وسلم وأزواجه وصحابته رضوان الله عليهم أجمعين
» وصف الحور العين للشيخ : محمد العريفي
» (((من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم للشيخ محمد العريفي)))
» خطبة جمعة عن (الإمتحانات) للشيخ محمد الشنقيطي حفظه الله تعالى